إلى شادية العزيزة، تحية طيبة وبعد،
أشكرك على رسالتك المدوّنة بتاريخ ۲۲ تشرين الأول التي كشفتِ لي فيها عن جانب منك أفرحني إلى أبعد حد، ألا وهو أهمية الكتابة والدور الذي باتت تلعبه في حياتك. فيها اقترحتِ أيضًا جزءًا من المسار الذي قد تسلكه علاقتنا المهنية وصداقتنا الناشئة، قائلةً إن كلتينا « ترغب في سماع صوت ثقافة الآخر، ذاكرته وتاريخه ». أؤيد هذا الاقتراح بقوة!
يجب أن أعترف لك أنني أكتب هذه الرسالة الثانية لك من منطلق مختلف. إذ كنت حتى منتصف تشرين الأول لا أزال أشعر أنني كالسائر في العتمة: كيف لي أن أتوصل إلى أي فهم عميق لك ولعملك ومسيرتك وثقافتك، وحاجز اللغة بيننا سور يحول دون استطاعتي قراءة أي من كتاباتك؟ هذا ولقاؤنا يحصل في سويسرا، بعيدًا عن بلدك الذي لا أعرفه اطلاقًا. لقد واجهت موقفًا مماثلًا من قبل، كنت فيه مجرّدة من أداة اللغة وامكانية الكتابة ومعرفة العادات والتقاليد. لكنني كنت حينها منغمِرة في البلد المعني، أي روسيا. حين نغوص في ثقافة أجنبية، ترانا نسبح في طيات حياتها اليومية فاتحين اذرعنا لما تحمله من مخاطر وصعوبات، خائضين فعليًّا تجربة الثقافة الأخرى، نختبرها، نلتمسها بكل ما لدينا من حواس، إلى أن تتغلغل فينا، رويدًا رويدًا وحرفياً! لقد كتبت عن هذا الموضوع في كتاب لم يُنشر بعد، كي أشهد عن هذه التجربة التي قلّما خاضها المفكرين. لا شك أنك تفهمين تمامًا ما أعنيه، إذ تعيشين في سويسرا منذ عشر سنوات، وأنتِ لا تتقنين الفرنسية بإحكام.
كما ذكرت سابقًا، هذه الرسالة الثانية أكتبها لك من منطلق، من سياق مختلف. أولاً، لأني تمكنت في هذه الأثناء من قراءة رسالتك، أي تمكنت فيها من قراءتك أنتِ. أضيفي إلى ذلك كوننا قد عشنا بعض اللحظات معًا، خلال تلك الليلة الواقعة في ۱٤ تشرين الثاني التي نشأ فيها المشروع، في ريننس، حيث كنًا بصحبة كاميل ومود وجمانة ولطفي وكورنيليا وأعضاء من فريق Globlivres الودّية… يا لها من فرصة سعيدة! كان الجمهور خلالها مأخوذًا بما يسمع، والتمست يومها أهمية التعبير باللغة العربية بالنسبة لك، لا سيًما أمام جمهور معظمه سويسري، وكم تأثرت أسرتك بذلك. وسُعدت بلقاء إبنيك فارس ولطفي، وتوجيه التحية لزوجك طاهر؛ كان ذلك أمرًا هامًا بالنسبة لي. سُررت أيضًا بتبادل أطراف الحديث مع بعض صديقاتك المغتربات مثلك، اللاتي قدمن لك زهرة الأزالية الحمراء الجميلة! غدا يومها كل شيء أكثر واقعية بالنسبة لي، راسخًا في أرض الواقع.
حين تتحدثين في رسالتكِ عن بلدكِ وعن حربه الوحشية، تقولين « إن العالم لم يدعمنا، بل اكتفى بمشاهدتنا »، وهذا للأسف تمامًا ما حصل. سنخصص لهذا الموضوع حديثا كاملًا إن شاء الله. تقولين فيها أيضاً إنكِ تكرهين السياسة، ولكن السياسة تسيل في عروق السوريين شاءوا أم أبوا، وإن الجميع يتدخل فيها. سنتحدث عن ذلك أيضاً.
من جهتي، لطالما كنت مهتمة بالسياسة، وبالاقتصاد والعلوم بشكل خاص. واستطيع أن أجزم لك أن الآراء في بلدنا أيضًا تختلف بحدة، والعجز عن التفاهم في ازدياد ومعه يستفحل الرفض القاطع للرأي الآخر. ومع ذلك، في هذا البلد، وكأنما بمعجزة لا شيء فيها في الحقيقة من المعجزات – وهذا موضوع نفكر فيه باستمرار (أو بالأحرى أفكر فيه أنا على الأقل) – لم نعد نتناحر… آخر مرة تناحرنا فيها (وأتذكر ذلك كلما حلّ شهر تشرين الثاني) كانت في عام ۱٨٤٧، خلال حرب سوندربند. ولكن لا لا داعي للقلق، لم تتعدَّ هذه الحرب الشهر الواحد وأسفرت عن أقلّ من مئة قتيل… إنما كانت حربًا أهلية! نعم، لقد قرأتِ جيّدًا: حرب أهلية في سويسرا! تحاربت خلالها الكانتونات الكاثوليكية والكانتونات البروتستانتية، وكان البعض يرفض حلول دولة مركزية قوية، بينما كان البعض الآخر يؤيّده… وانتهت هذه المأساة بصياغة دستور سنة ۱٨٤٨. في المدرسة، كانوا دائمًا يرددون لنا أن هذا النص هو ما أنشأ سويسرا الحديثة، وهذا صحيح: بفعل تسوية سويسرية محضة، تم إنشاء دولة مركزية قوية، مع ابقاء الكثير من الصلاحيات بين أيدي الكانتونات، وانتهى الأمر!
في المدرسة أيضًا، كنت، كطالبة مفعمة بحب الاطلاع، أطرح العديد من الأسئلة. كانوا يحدثونا عن حداثة سويسرا وديمقراطيتها شبه المثالية… إنما، على الرغم من حداثتنا هذه، لم تحصل النساء في بلدنا على حق الاقتراع على المستوى الفدرالي قبل عام ۱٩٧۱! نعم، تقرأينني جيّدًا… عمَّ يتكلم سياسيّونا حين يذكرون « ديمقراطيتنا الفاضلة »؟ أيولد كل صبيّ فيها أعورًا غير قابل للشفاء؟
نعم شادية، هذا البلد الصغير الذي تعيشين فيه والذي ما زلت تتعرفين عليه هو بلد سلمي منذ حين ومزدهر بلا شك، ولكنه، بصراحة، وإن كان في غاية التطور والعملية، ما زال متخلفًا من بعض النواحي. وليس الوحيد على هذا المنوال… أضيفي إلى ذلك أننا، نحن السويسريون، لا نعرف حتى من نحن! نعم، فنحن لا نتكلم لغة مشتركة، ومن جانب إلى آخر من بقعة الأرض الصغيرة هذه، تختلف العادات والرؤيا والمراجع الثقافية… هذا ما يميّزنا. هذا مصدر قوتنا وهذا أيضًا نقطة ضعفنا. وخصوصيتنا هذه تؤثر طبعًا على نظرة الفنانين في بلدنا. تؤثر، على الأقل، على نظرتي ككاتبة لطالما كانت مهتمة باللغات والثقافات الأخرى والطرق الأخرى في الفعل والرؤية.
ولهذا أتطلع إلى تعريفك على بعض هذه الميزات الوطنية التي قل من يعرفها، حتى بين جيراننا. وأتوق إلى تفتحي لي أبواب ثقافتك وتعرّفيني على كتّابك المفضلين.. إلى أن نتناقش حول بعض الأعمال الأدبية، ككتاب آني إرنو الذي بدأنا بمناقشته ذلك اليوم.. إلى أن نتحدث عن كتاباتنا في ما أسمّيه « غرفة المحرّكات »، وأعني بذلك مساحة تشغيل آلية الكتابة الأدبية.
أرسل لك، شادية الغالية، أحرّ السلامات والقبلات، وكما نثق أنا وأنت، سيكون كل شيء على ما يرام ان شاء الله!
كاترين
في ۲۲-۲٤ تشرين الثاني ۲٠۲۲