صباح الخير يا كاترين…
أنه صباح سويسري بامتياز،بكل أدواته الجميلة، بحيرة ليمان الزرقاء في ظل النهار الخافت، وبجعاتها في دورانهم الأبدي، مدينة ايفيان الفرنسية تلوّح بالتحية من على الطرف الآخر من البحيرة، جبال الألب الدائمة الثلوج تذكرنا دائما بالشتاء القادم على الأبواب.
لكن هذا الطقس الحار يا عزيزتي كاثرين لا يبدو سويسرياً ولا لوزانياً!.
إنه يذكرني بيوم حار من طقس شهر آب ببلدي سورية.
قلت في رسالتك أنك تودين أن تسمعي صوت ثقافة الآخر، الآخر الذي هو أنا، أنا القادمة من بلاد مختلفة الثقافة. جئت أبحث عن أماني في وطن بديل. أتساءل هل الاختلاف الثقافي هو كل شيء لبناء علاقة إنسانية؟ قد يكون هو جزءا هاماً في نجاحها، لكن هناك أشياء أخرى لا تقل أهمية عنها. الرغبة، الفضول، الحدس، الرؤية الانسانية العميقة والشاملة، ويمكن هناك أكثر، لا أحد بإمكانه التكهن، لكن بالتأكيد أن رغبة كل منا الاطلالة على ثقافة الآخر هي السبب الأهم .
إذن ما رأيك ياعزيزتي كاترين، أن أدعوك الآن إلى فنجان قهوة تطلين فيه معي على طقوس صباحنا السوري
بالرغم من أن الحرب الشرسة شجّت الروح السورية بعمق، كسرته. لكن كنا ومازلنا شعبا عاطفيا، نوستالجيا، نحب أن نبدأ صباحنا ببطء، و نشرب قهوتنا على مهل، يشرح قلبنا منظر جميل، وينعش ذائقتنا صوت شجي، اعتدنا أن تكون /فيروز/ المغنية اللبنانية، رفيقة صباحاتنا، كبرنا و صوتها المخملي يسكن ذاكرتنا وتاريخنا وثقافتنا وذائقتنا، ولا أبالغ في القول إن صوت فيروز يسكن الذائقة العربية، على امتدادها الكبير، من سورية ولبنان وفلسطين ومصر والأردن وصولا إلى الجزائر وتونس والمغرب ، نجحت أغانيها في أن تكون جسرا ثقافيا بين الأجيال من جهة، وبين الشعوب العربية من جهة أخرى.
كانت هي الصوت الملهم ، لعائلتها الموسيقية الشهيرة التي سميت /الرحابنة/ كان منهم الموسيقي والملحن والشاعر، نجحوا في أن يكونوا رموزًا للتفرد والإبداع في الموسيقى العربية. وأن يمزجوا بين العناصر التقليدية والحديثة بطريقة فريدة، مما جعلهم مصدر إلهام للشباب الباحثين عن تجربة جديدة ومبتكرة، وتركوا بصمة عميقة في عالم الموسيقى وتشكيل الهوية الثقافية للجيل الجديد
غنت فيروز للوطن، للحب، للإنسان، للحنين، للمطر، للطفولة،للسلام لكل شيء عميق وبسيط وجميل يلمس عوالم النفس الإنسانية، كان سرها الجميل أن أغانيها جمعت بين الكلمة الشعرية، واللحن المميز والاداء الرائع.
زارها الرئيس الفرنسي في بيتها عندما جاء لزيارة لبنان في العام ٢٠٢٠ 2020 أو قبله بعام- لست متأكدة من التاريخ تماماً- تقديرا لها ولفنها. وقال عنها بوب ديلان Bob Dylan الفائز بجائزة نوبل للأدب بأنها صوت /الأمل والسلام في الشرق الأوسط/, واعتبرها إلتون جونز Elton John من أجمل الأصوات في العالم ، والكثير الكثير من حكى عنها لا يتسع المجال لذكرها،
نعم، عزيزتي كاثرين، صحيح أن الحرب الشرسة شجت الروح السورية، وتركتها في حالة كمون، ربما كلمة كمون لا تعبر كثيرا عما حدث، ربما كلمة كسر، هي التعبير الأصح، الكسر العميق الذي يحتاج للكثير الكثير من الصبر والعمل والوقت ليقف على قدميه. ويستعيد بعضاً من مجد قديم عاشه في حقبة من التاريخ. لا يمكن لأحد أن يتجاهل أن حضارة عريقة موغلة في الزمن والتاريخ قد قامت هنا. يكفي أن أذكر أن دمشق هي أقدم المدن المأهولة في التاريخ حتى اليوم، وأنها شهدت العديد من الإمبراطوريات والحضارات القديمة، الحضارة الفينيقية كانت هنا، والآرامية مرت من هنا، و شكلت مركزا حضاريا رئيسيا في العالم القديم والحديث، ومازالت جدرانها تحمل العديد من القصص والتحولات التاريخية، تحكي عنها المواقع التاريخية والآثار التي مازالت موجودة ،مثل البازارات والمساجد والكنائس والحمامات.
وقد تألق بها العديد من العقول المبدعة الذين أثروا على الحركة الثقافية في العالم، مثل ابن سينا الطبيب والفيلسوف الدمشقي الشهير،الذي كان مرجعا في الطب لعدة قرون، وابن النفيس عالم الطب والبيولوجيا، والزهراوي عالم الكيمياء وغيرهم كثر
عزيزتي كاترين، أنا مدينة لهذه الرسائل التي تكشف لي جزءا هاما من روح كاترين الكاتبة والباحثة والصحفية، وما تمثله لثقافة بلدها ومدينة للمشروع الثقافي الهام الذي جمعنا ecrire encore. لكن اسمحي لي أن أحكي للجميع، أن صداقتنا لم تبق حبيسة هذه الرسائل فقط ، لقد كسرنا الحاجز و خرجنا منها إلى الهواء الحر .
ففي يوم غائم ينذر بمطر خفيف، انطلقنا معا في سيارة كاترين، من مدينة فيفي Vevey، أخذنا الطريق السريع الذي يقود إلى الحدود الايطالية، ومن ثم تركناه، وبدأنا الصعود في الطريق الجبلي الزلق المليء بالمنعطفات المرعبة، التي كانت تجعل ضربات قلبي تدق بسرعة،ويمكن منسوب الادرينالين انخفض في دمي إلى حد كبير، لكن كاترين الشجاعة ابنة المنطقة وصديقة الجبال، أزالت الروع عني، وتركتني أتأمل هذا الجمال الثابت المعزول، الذي يفتح أمام من يريد، مشروعا كاملا للعزلة، مكانا قد يكون موحياً وملهماً لكاتبة مثل كاترين، ولكل من يحب أن يكتب بعيدا عن ضجيج العالم. ببساطة لقد أمضينا نهارا رائعا، على علو ١٥٠٠ متر1500م. رغم الغيم، ورغم مشاغبة المطر المراوغ، فتارة ينهمر بكثافة، وتارة ببطء وهدوء، وتارة تصفو السماء وتضحك لنا، ورغم كل عثرات اللغة التي كانت تراوح بين الإنكليزية والقليل من الفرنسية. لكننا نجحنا من أن نجعل منه نهارا مميزاً مليئاً بالحميمية.
وفي تلك المسافة المبهمة ما بين الحنين للوطن والرغبة في الانتماء للوطن البديل، تبدو لي سويسرا، في مكانها الثابت، تحمل تاريخها السري من اللذة والألم، ملهمة، كتومة، متكبرة. لا تفصح عن الهدير الذي يغلي داخلها.
شادية الأتاسي